عاصفة أربكت أكبر الشركات في العالم، تراجع في الإنتاج وفجوة بين العرض والطلب، كل ذلك كان على خلفية النقص في إنتاج أشباه الموصلات (semiconductors) أو يمكننا تسميتها بعصب التكنولوجيا الحديثة. فالفرشاة الكهربائية على مغسلتك أو الأقمار الصناعية التي تحلق عالياً في الفضاء، جوالك والسيارات، وغيرها يتوقف تشغيلها على استخدام هذه الموصلات.
برزت أزمة أشباه الموصلات عقب جائحة كورونا لتخلق معها ساحة صراع جديدة بين الصين وأمريكا، حيث تسعى كل منهما لإشهار هذا السلاح في وجه الأخرى بهدف تحقيق مطامحهم في سبيل التفوق التكنولوجي، فكيف لتلك الدول أن تعيد الأمور إلى توازنها بعد أن شهدت عدة شركات كبيرة هبوطًا في أسهمها، وتغييرات كبيرة في خطط الإنتاج إثر تلك الأزمة، وما السبب الذي أودى لهذه النقطة من العوز للموصلات.
كورونا، الشعرة التي قصمت ظهر البعير في أزمة أشباه الموصلات
يعتمد العالم بشكل كبير على المصنع التايواني TSMC لتغطية حاجاته من أشباه الموصلات، حيث يغطي إنتاجه ما يزيد عن الـ 50%، تليه سامسونج الكورية وإنتل الأمريكية، حيث عانت الأخيرة من مشاكل في التصنيع، بسبب أخطاء في الإدارة مما جعلها تتأخر في إطلاق شرائح بمعمارية 7 نانوميتر، مما أدى إلى مشاكل في إنتاج المعماريات الأخرى، وبالتالي حدثت أزمة أدت إلى نقص في إنتاج الشرائح.
بالإضافة لذلك كان الطلب على الشرائح الإلكترونية في تزايد مستمر، وذلك بسبب ظهور شبكات الجيل الخامس 5G إلى جانب التطور الحاصل في مجال الذكاء الاصطناعي، لكن بعد ظهور وباء كورونا والاضطرار للالتزام بالحجر المنزلي الذي أدى بدوره إلى إغلاق المعامل بشكل كلّي فترة طويلة نسبيًا ما جعل الإنتاج يتناقص فيما كان الطلب على أشباه الموصلات في تزايد، خاصة بما يتعلق بالأجهزة اللوحية والهواتف الذكية، وذلك لأنها أضحت الوسيلة الوحيدة للتواصل مع العالم الخارجي. كما أن زيادة تكلفة الشحن بشكل مهول إلى نحو عشرة أضعاف تقريبًا والنقص في سائقي الشاحنات في أوروبا كانت عاملًا إضافيًا في زيادة الأزمة.
بعد الإعلان عن خطة التعايش مع وباء كورونا وإلغاء الحظر أو جعله حظرًا جزئيًا في بعض المناطق، تزايد الطلب على السيارات كوسيلة لتخفيف التجمعات في وسائل النقل العامة، مما أدى لارتفاع الطلب على أشباه الموصلات في قطاع السيارات أيضًا، وبالطبع القطاعات الطبية في تلك الفترة كانت تنادي هي الأخرى بأولويتها للحصول على الموصلات لخدمة ما يتعلق بصناعة الأجهزة الطبية.
علاوة على ذلك كان للحظ العاثر أن يتدخل مفاقمًا الأزمة، حيث حصل انقطاع مفاجئ للتيار الكهربائي الذي يمد المصنع التايواني TSMC الذي أثر على إنتاجها، وعاصفة هوجاء في ولاية تكساس أدت إلى إغلاق مصانع أشباه الموصلات، أما في اليابان حصلت بعض التأخيرات في الإنتاج بسبب حريق في أحد مصانعها.
أشباه الموصلات
تأثيرات أزمة أشباه الموصلات طالت معظم القطاعات
كل تلك الأسباب سالفة الذكر أدت إلى زيادة الضغط على مصانع أشباه الموصلات، وذلك بسبب الفجوة بين العرض والطلب، أو بتعبير آخر الإنتاج لا يكفي لتغطية متطلبات السوق؛ ونظرًا لاستخدامها في الكثير من القطاعات كان لا بد من ظهور تأثيرات سلبية لهذه الأزمة، أبرز هذه القطاعات هي القطاعات التكنولوجية والسيارات.
التأثيرات على قطاع التكنولوجيا
خلال مدة زمنية قصيرة انتقل العالم بأسره إلى ما يشابه العالم الافتراضي، حيث أصبحت جميع الأعمال والتواصل والترفيه والتعليم كلها تتم من خلف الشاشات، أصبح الطلب عليها في تزايد لكن النقص في تأمين أشباه الموصلات لإنتاج ما يغطي الطلب أثر عليها بشكل سلبي، حيث انخفضت أسهم بعض الشركات بالإضافة إلى انخفاض طبيعي في الإنتاج.
أعلنت آبل أنها ستقوم بإصدار 90 مليون هاتف ذكي من طراز آيفون 13، لتقوم فيما بعد بتخفيض هذه الكمية بمقدار 10 مليون هاتف ذكي، مما أدى لانخفاض أسهم آبل، وسامسونج هي الأخرى قامت بتخفيض إنتاجها. كما تأثرت أجهزة تحكم ألعاب الفيديو، حيث عانى المستخدمون للحصول عليها لأجهزة بلايستيشن 5 و سلسلة إكسبوكس X.
التأثيرات على قطاع السيارات بسبب أشباه الموصلات
تعتمد السيارات في وقتنا الحالي على أشباه الموصلات في بنائها بشكل كبير ويمكن القول إنها “كمبيوترات على عجلات”. وعند الإعلان عن ظهور وباء كورونا وفرض الحظر الكلي، لم تعاني السيارات من أي مشاكل في تأمينها، وذلك لأن الطلب عليها انخفض بشكل طبيعي بسبب الحظر، لكن بعد انتهائه أو فرض حظر جزئي ازداد الطلب على السيارات بشكل ملحوظ، وذلك على أثر خوف الناس من الفيروس، حيث أن شراء سيارة شخصية ستكون فكرة جيدة لتقليل الاختلاط مع الآخرين عن طريق تجنب ركوب المواصلات العامة.
عند هذه المرحلة واجهت شركات السيارات أزمة أشباه الموصلات بشكل كبير، وذلك لأن الطلب عليها من قِبل شركات الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية في تزايد كبير، والتي تعتبر المفضلة بالنسبة لمصانع أشباه الموصلات، ما جعل الأخيرة لا تستجيب بالشكل المطلوب لاحتياجات شركات السيارات، وتعطيلها.
دفعت تلك الأزمة بشركات السيارات لتغيير خطط إنتاجها، على سبيل المثال قامت شركة “بيجو” باستبدال العدادات الديجيتال في سياراتها بأخرى تقليدية بهدف تقليل استخدام أشباه الموصلات كحل مؤقت، أما شركة “فورد” و”جنرال موتورز” فقام كلاهما بتخفيض ووقف إنتاج مركبات معينة، وغيرهم الكثير من العلامات التجارية التي دفعت بهم أزمة أشباه الموصلات لإيجاد حلول مؤقتة بديلة لحين تخطي الأزمة.
أشباه الموصلات، محورٌ آخر للحرب الباردة
لا تقل أهمية السيطرة على صناعة أشباه الموصلات عن تلك الأهمية التي يحظى بها النفط، فيمكن اعتبار أشباه الموصلات “نفط القرن الواحد والعشرين”. أي أن البلد المتحكم بهذه الصناعة قادرة على التفوق العسكري والاقتصادي، وذلك ما سعت أميركا لنيله من خلال تضييق الخناق على الصين، عن طريق فرض الحظر على العملاق الصيني هواوي ومنعهم من الحصول على تصاميم خارجية لرقاقاتهم من أي شركة أمريكية، مما أدى إلى شبه حظر للشركة من المصنع التايواني المتحكم الأكبر بصناعة أشباه الموصلات، والذي يشكل ساحة الحرب الأبرز بين القطبين.
وعلى الجانب الآخر، تلك الإجراءات ستدفع بالصين حتماً لإيجاد حلول داخلية والاعتماد على الإنتاج المحلي لتغطية احتياجاتها، ربما تلك الإجراءات تتطلب بعض السنوات لتحقيقها، لكن ذلك سيشكل تهديدًا لأميركا عند حدوثه، ما دفع بالأخيرة لدعم صناعة أشباه الموصلات محليًا.
هل يوجد حل قريب لأزمة أشباه الموصلات؟
تشير بعض التوقعات إلى أن الأزمة مستمرة لعامين على الأقل، حيث أن أغلب التوقعات تشير إلى انتهائها بين عامي 2022 وعام 2023، وذلك لأن إنشاء مصانع جديدة لتغطية الطلب يستغرق وقتًا طويلًا، كما أن إنتاج الرقاقات يستغرق أكثر من ثلاثة أشهر في مصانع ذات تجهيزات تكلف المليارات، فلا يعد الأمر بتلك السهولة، وحتى حدوث هذا فستظل الأزمة موجودة فيما يتعلق بإنتاج الرقاقات.