في عام 1948، وضع عالم الرياضيات كلود شانون حجر الأساس لنظرية المعلومات، واقترح إمكانية توليد اللغة البشرية بناءً على احتمالات ظهور الكلمات. إلا أن الفكرة لم تلقَ ترحيبًا آنذاك، بل واجهت نقدًا من علماء اللغة مثل نعوم تشومسكي، الذي وصف “احتمالية الجملة” بأنها مفهوم عديم القيمة.
الذكاء الاصطناعي والكتابة الإبداعية أداة مساعدة لا بديل للموهبة البشرية
تعتمد النماذج اللغوية الكبيرة على تحليل كميات هائلة من النصوص المتاحة عبر الإنترنت، مما يتيح لها التعلم من الأنماط اللغوية والروابط المعنوية بين الكلمات. وعند توليد النصوص، لا تكتب الروبوتات بناءً على فهم عميق، بل تختار الكلمات استنادًا إلى احتمالات ظهورها في السياق المحدد، كمن يسحب ورقة من قبعة مملوءة بكلمات متوقعة.
الذكاء الاصطناعي والكتابة الإبداعية أداة مساعدة لا بديل للموهبة البشرية
هل الذكاء الاصطناعي مُبدع حقًا؟
وصف بعض الباحثين النماذج اللغوية الكبيرة بأنها “ببغاوات عشوائية”، وهو وصف دقيق أطلقته الباحثة إميلي بندر، في إشارة إلى أنها لا تُبدع فعليًا بل تعيد تركيب محتوى البيانات التي تدربت عليها. ووفقًا لهذا المفهوم، فإن إنتاج النصوص من قبل الذكاء الاصطناعي قد يشبه نوعًا من “السرقة الأدبية”، ولكن بمستوى الكلمة الواحدة.
الإبداع البشري، على النقيض، ينبع من رؤى فريدة وتجارب ذاتية يسعى الفرد للتعبير عنها. وعند استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، يبدأ المبدع عملية تفاعلية، يصيغ خلالها مطالبة نصية دقيقة تعكس فكرته، لتتحول إلى إنتاج أولي قد يحتاج إلى تعديل أو تطوير للوصول إلى رؤية فنية متكاملة.
القيود الجوهرية: حين يفشل الذكاء الاصطناعي في تقليد الإبداع الأصيل
لا تستطيع النماذج اللغوية تمثيل الأسلوب الشخصي العميق للمبدعين، لأنها غالبًا لا تتوفر على بيانات كافية عن إنتاجات مؤلف بعينه. لذلك، تبقى النصوص الناتجة عامة الطابع، وتفتقر إلى البصمة الإبداعية التي تميز الكاتب الحقيقي.
كما أن النماذج تضطر غالبًا إلى “ملء الفراغات” بتفاصيل قد لا تعكس نية الكاتب الأصلي، مما يستلزم تدخلًا بشريًا دقيقًا لتصحيح المسار وضبط المحتوى بما يتوافق مع الأهداف الفنية أو المعرفية.
بين الإبداع والبرمجة: تشابهات وتحديات
تتشابه الكتابة الإبداعية مع تطوير البرمجيات، حيث يسعى كلاهما إلى تحويل أفكار مجردة إلى منتج لغوي أو تقني. وبينما تتفوق النماذج في المهام الصغيرة والمتكررة، مثل كتابة بريد إلكتروني أو توليد كود بسيط، فإنها تفتقر إلى القدرة على التعامل مع المشاريع المعقدة دون إشراف بشري دقيق.
برزت خلال السنوات الأخيرة أهمية ما يُعرف بـ “هندسة المطالبات” (Prompt Engineering)، وهي مهارة تهدف إلى تحسين مدخلات النماذج للحصول على مخرجات أكثر دقة وجودة. ومن أبرز أساليبها:
المطالبات متعددة الخطوات: تقسيم المهمة إلى مراحل متسلسلة.
سلسلة التفكير (Chain of Thought): مطالبة النموذج بشرح خطواته المنطقية قبل تقديم النتيجة.
ومع تطور النماذج، بدأت هذه الأساليب تُدمج في بنيتها، مما يجعلها جزءًا من قدراتها الأساسية دون تدخل يدوي دائم من المستخدم.
التفكير النقدي ضرورة في عصر الذكاء الاصطناعي
منذ تطوير أول روبوت محادثة (ELIZA) في ستينيات القرن الماضي، أظهر البشر ميلًا فطريًا لإضفاء صفات بشرية على الآلات. ولكن مع انتشار الذكاء الاصطناعي اليوم، بات من الضروري امتلاك أدوات التفكير النقدي لتمييز المحتوى الحقيقي من المضلل، وتجنب الوقوع في فخ الانبهار المفرط بتقنيات لا تفكر أو تفهم كالبشر.
على الرغم من التطور المذهل في قدرات النماذج اللغوية، يبقى الإبداع الحقيقي محصورًا في الإنسان. فالذكاء الاصطناعي لا يزال مجرد أداة تعتمد على بيانات بشرية، تفتقر إلى النية، والهدف، والرؤية الخاصة التي تُشكّل جوهر الإبداع البشري.
في الوقت الذي تواصل فيه شركات التكنولوجيا العملاقة، مثل غوغل ومايكروسوفت، تعزيز حضور الذكاء الاصطناعي في منتجاتها وخدماتها اليومية، تتصاعد المخاوف من أثر هذا التوسع السريع على الأجيال الشابة، خصوصًا في البيئات التعليمية.
تنامي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يثير قلق المعلمين والخبراء
بات الذكاء الاصطناعي جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية، بدءًا من أدوات الكتابة الذكية في المستندات ورسائل البريد الإلكتروني، وصولًا إلى محركات البحث والأنظمة التعليمية والترفيهية. لكن رغم الفوائد العديدة لهذه الأدوات، إلا أن التقارير الحديثة تسلط الضوء على الآثار السلبية المحتملة للاستخدام المفرط للذكاء الاصطناعي من قبل الطلاب.
تنامي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يثير قلق المعلمين والخبراء
من التعلم إلى الاعتماد الكامل
أظهرت دراسة لموقع Axios أن 70% من المراهقين الأميركيين استخدموا أدوات ذكاء اصطناعي بحلول سبتمبر 2023، وأكثر من نصفهم اعتمدوا عليها في أداء الواجبات المنزلية. ويرى الخبراء أن هذا الاعتماد قد يؤدي إلى تآكل مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب، مما يهدد بتكوين جيل أقل قدرة على التحليل واتخاذ القرار.
جينا بارنابي، وهي معلمة في ولاية جورجيا الأميركية، أعربت عن قلقها من سلوك طلابها، الذين باتوا يستخدمون الذكاء الاصطناعي “للتفكير بدلًا منهم”. وأكدت أن هذا السلوك يُشبه محاولة الركض لمسافة ميل دون تدريب مسبق، حيث يفشل الطالب في تطوير مهاراته الذهنية بسبب الاعتماد على أدوات جاهزة.
تتعدد الآراء حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يعزز من القدرات البشرية أو يُقلل منها. تقرير لمجلة Inc أشار إلى أن مايكروسوفت حذّرت في دراسة لها من أن الإفراط في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي قد يُعرّض المستخدمين لخطر فقدان التفكير التحليلي والشعور بالقلق.
وفي نقاشات دارت على منصة Reddit، انقسمت الآراء بين من يرى في الذكاء الاصطناعي تهديدًا لتطور الأفراد، ومن يعتبره أداة تعزيز معرفي تشبه الآلة الحاسبة التي أثارت الجدل في بدايات استخدامها.
تشير المؤشرات إلى أن جيل الطلاب الحالي سيكون القوة العاملة المستقبلية. ومع الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي، يُتوقع أن تواجه المؤسسات تحديات في توظيف أفراد يمتلكون مهارات التفكير السريع والمستقل، لا سيما في مواقف لا يمكن فيها الاعتماد على الذكاء الاصطناعي أو يكون استخدامه غير مناسب.
وقد يضطر أصحاب العمل مستقبلًا إلى تعديل معايير التوظيف، واختبار القدرات العقلية التحليلية دون تدخل من أدوات الذكاء الاصطناعي.
في قفزة علمية مذهلة بمجال واجهات التخاطب بين الدماغ والحاسوب (BCIs)، طوّر باحثون من جامعتي كاليفورنيا في بيركلي وسان فرانسيسكو تقنية جديدة تمكّن المصابين بالشلل الشديد من التحدث مجددًا من خلال تحويل الإشارات العصبية إلى كلام مسموع في الوقت الفعلي.
الذكاء الاصطناعي يمنح الصوت لمن فقده تقنية ثورية لتحويل موجات الدماغ إلى كلام لحظي
لطالما كان “زمن الانتقال” أحد أبرز تحديات الأجهزة العصبية الناطقة. التقنية الجديدة، المدعومة بالذكاء الاصطناعي، قلّصت هذا التأخير من 8 ثوانٍ إلى نحو ثانية واحدة فقط، ما أحدث تحولًا في سرعة وواقعية التواصل.
الذكاء الاصطناعي يمنح الصوت لمن فقده تقنية ثورية لتحويل موجات الدماغ إلى كلام لحظي
ذكاء اصطناعي بقدرات تشبه “سيري” و”أليكسا”
أوضح الدكتور جوبالا أنومانشيبالي أن النظام المطوّر يتمتع بسرعة فك تشفير تضاهي المساعدات الصوتية الذكية مثل Siri وAlexa، مع إنتاج صوت أكثر طلاقة وطبيعية.
تسجيل مباشر من الدماغ.. ومرونة في الاستخدام
قاد الدكتور إدوارد تشانج تجربة سريرية تستخدم أقطابًا كهربائية دقيقة لتسجيل النشاط العصبي من سطح الدماغ مباشرة. وأظهرت التقنية نجاحًا على واجهات مختلفة، من التسجيلات العميقة إلى المستشعرات السطحية غير الجراحية.
تعتمد التقنية على تسجيل النشاط من القشرة الحركية المسؤولة عن نطق الكلام، ثم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحويل هذه الإشارات إلى كلمات منطوقة بدقة عالية، في وقت متزامن تقريبًا مع نية التحدث.
تجربة واقعية: آن تعود للكلام بلا صوت
طلب الباحثون من متطوعة تُدعى “آن” محاولة نطق جمل بصمت. وبالاعتماد على نموذج ذكاء اصطناعي مدرّب، تم توليد صوت مشابه لصوتها الطبيعي، رغم غياب أي تسجيلات صوتية حالية لها.
نجح النظام في إنتاج أول صوت بعد ثانية واحدة من محاولة النطق، مع استمرار البث الصوتي بدقة عالية، دون الحاجة إلى توقف أو إعادة تشغيل بين الجمل.
فهْم أعمق للغة.. لا تكرار آلي
لا يعتمد النموذج على حفظ كلمات محددة، بل يُنتج كلامًا طبيعيًا باستخدام كلمات جديدة لم تُدرَّب مسبقًا. وأظهر فعالية في اختبار مفردات من خارج مجموعة البيانات الأصلية.
يعكف الفريق حاليًا على تحسين الجوانب التعبيرية في الصوت الناتج، مثل النبرة والحدة والعاطفة. كما تتوسع الجهود عالميًا، مع دخول شركات مثل Paradromics وNeuralink في سباق تطوير واجهات دماغية أكثر تطورًا.
يُعد نظام الكتابة المسمارية الذي ابتكره السومريون عام 3100 قبل الميلاد من أقدم أشكال التوثيق البشري، وتعود أقدم النقوش المصوّرة إلى عام 4400 قبل الميلاد. هذه السجلات القديمة – بما تحويه من نصوص وتماثيل ورموز معمارية – تشكّل كنزًا معرفيًا ضخمًا، لكنه يتطلب أدوات دقيقة لتحليله وفهمه، وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي ليسرّع العمل ويُعمّق الفهم.
حين يلتقي الذكاء الاصطناعي بعلم الآثار ثورة رقمية في فهم الحضارات القديمة
فك شفرة اللغات القديمة ليس مهمة سهلة، فالكلمات تتغير مع السياق، وتحتاج إلى تحليل معمق. تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (NLP) تتيح للعلماء دراسة النصوص القديمة، تعرّف الأنماط اللغوية، وتقديم ترجمات دقيقة بوتيرة أسرع من أي وقت مضى.
حين يلتقي الذكاء الاصطناعي بعلم الآثار ثورة رقمية في فهم الحضارات القديمة
اكتشاف المواقع الأثرية من الفضاء
استخدم باحثون من جامعة خليفة في أبو ظبي الذكاء الاصطناعي لتحليل صور الأقمار الصناعية بهدف الكشف عن مواقع أثرية مدفونة في صحراء الربع الخالي.
هذه التقنية تمكنت من تحديد مواقع بدقة تصل إلى 50 سنتيمترًا، ما يُعد إنجازًا فريدًا في علم الآثار ويساعد على تسريع حملات التنقيب الميدانية.
اقترح الأستاذ Michael Varnum من جامعة ولاية أريزونا استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحليل النصوص التاريخية بهدف استنباط القيم والمعتقدات المجتمعية التي سادت في الأزمنة القديمة.
رغم محدودية هذه النصوص التي كتبتها فئات متعلمة فقط، إلا أنها توفر رؤية أعمق لعقليات الشعوب القديمة وطريقة تعبيرهم عن أنفسهم.
في اكتشاف فريد من العصر البرونزي في إيران، عُثر على أقدم لعبة لوحية كاملة تعود إلى ما قبل 4500 عام. مشروع Digital Ludeme يستخدم الذكاء الاصطناعي لإعادة بناء قواعد الألعاب القديمة، ونجح حتى الآن في إعادة إحياء أكثر من 1000 لعبة كانت جزءًا من الحياة اليومية للمجتمعات القديمة.
هذه الألعاب تُستخدم اليوم لفهم الجوانب الثقافية والترفيهية في تلك الفترات.
التحديات والفرص: مستقبل الذكاء الاصطناعي في علم الآثار
يمثل الذكاء الاصطناعي ثورة في تحليل البيانات الأثرية، واكتشاف المواقع، وإعادة بناء الأحداث والعادات القديمة. لكن التحدي يكمن في التحيزات البرمجية والافتراضات غير الدقيقة التي قد تنتج عن تحليل آلي صرف. لذلك، فإن الدمج بين الذكاء الاصطناعي والخبرة البشرية يُعد المفتاح لضمان دقة الاكتشافات المستقبلية.