توفر التقنيات الحديثة للذكاء الاصطناعي والتطورات الحاسوبية فهمًا معمقًا للنباتات وتفاعلاتها مع بيئتها، مما يتيح فرصًا كبيرة لتطوير محاصيل أكثر قدرة على التكيف مع التحديات المستقبلية.
ولكن لماذا يُعد هذا الأمر مهمًا؟ يواجه العالم تحديًا ضخمًا في تأمين الغذاء لسكان يزداد عددهم باستمرار، مع الاستفادة من مساحات أراضٍ أقل، وذلك تحت ضغوطات تدهور التربة وانتشار الآفات والأمراض و تغير المناخ .
ويؤكد جيك هاريس أوضح أستاذ علم الأحياء النباتية في جامعة كامبريدج أهمية هذه التطورات قائلاً: “إننا نواجه تحديات ضخمة ونعمل على معالجتها على مستويات مختلفة، بدءًا من المستوى الوبائي وصولًا إلى المستوى الخلوي والجزيئي، وسيساعدنا الذكاء الاصطناعي في إيجاد حلول فعالة في جميع هذه المستويات”.
الذكاء الاصطناعي يكشف الغموض عن أسرار النباتات:
لا يُعتبر تطبيق خوارزميات الذكاء الاصطناعي في علم النبات مسألة مستحدثة، حيث تجوب الروبوتات الحقول لالتقاط صور للنباتات، تُستخدم هذه الصور بعدها لأغراض التحليل باستخدام تقنيات التعلم العميق تساعد هذه الأدوات في جمع بيانات دقيقة ومتسقة تُستخدم لتعزيز وتحسين الزراعة. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم الخوارزميات التعلم الآلي من خلال دراسة خصائص النباتات وتوقع التراكيب الجينية التي ستنتج نباتات بصفات مرغوبة، مثل مقاومة الجفاف أو الأمراض دون التأثير على إنتاجية المحصول.
تُمكنّ الأدوات الحديثة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي الباحثين من اكتساب فهم أعمق للعمليات الداخلية في البيولوجيا النباتية، وكشف الأسرار التي كانت مخفية سابقًا ضمن شبكة معقدة من التفاعلات الجزيئية.
ويؤكد جون جامبر ، الباحث في شركة ( DeepMind ) التابعة لشركة جوجل وقائد فريق برنامج ( AlphaFold للتنبؤ بهيكل البروتين باستخدام الذكاء الاصطناعي، كانت دراسة الهيكلية التحتية للنباتات على نطاق واسع غير ذات جدوى اقتصادية في الماضي.
إذ أظهرت إحدى الأوراق البحثية أن أقل من 2% فقط من البروتينات المعروفة في نبات الأرابيدوبسيس الثاليانا – الذي يُعتَبَر نموذجًا رئيسيًّا في دراسة بيولوجيا النبات ويعتمد عليه العلماء كفأر تجارب نباتي – كانت معروفة، مقارنة بنحو 10 أضعاف هذا الرقم للبروتينات البشرية. لكن برنامج (AlphaFold) زاد نسبة معرفة بروتينات هذا النبات إلى أكثر من 60%، رغم أن الدقة كانت متفاوتة.
دفعت هذه النتائج جيك هاريس، أستاذ علم الأحياء النباتية في جامعة كامبريدج، لاستخدام برنامج (AlphaFold) لفهم التعديلات الكيميائية التي تحدث في الحمض النووي (DNA) للنباتات عندما تتعرض للأمراض والجفاف والضغوطات البيئية الأخرى.
تخزن هذه التعديلات معلومات تمكّن النبات من الاستجابة عند تعرضه للإجهاد مرة أخرى، غير أن هاريس يوضح أن الطريقة التي تقوم بها الخلية بذلك كانت غير واضحة مسبقاً.
التطبيقات الذكية تعيد صياغة مستقبل الزراعة:
تُمكّن تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة علماء النبات من استكشاف ما يتجاوز جينات النباتات والبروتينات المكونة لها، حيث بات من الممكن الآن دراسة العوامل الأخرى التي تؤثر على إنتاج المحاصيل، مثل التربة والمناخ والممارسات الزراعية.
على سبيل المثال، أظهرت ورقة بحثية حديثة استخدم باحثون من جامعة كنتاكي خوارزميات التعلم الآلي للتنبؤ بالتركيب الجيني لعينة من العنب على أساس الميكروبيوم الموجود في التربة المحيطة بها. وقد تمكن الباحثون من تحديد نوع العنب الذي ستنتجه النبتة، سواء كان (شيراز) أو (كابيرنت ساوفيجنيون).
أوضح كارلوس رودريجيز لوبيز، أستاذ البساتين بجامعة كنتاكي والمساهم في الدراسة، أن النتائج تُبيّن تأثير التركيب الجيني للنبات على الميكروبيوم في التربة. وفتح هذا الاكتشاف الباب أمام إمكانية تهجين المحاصيل لتكون بيئة أفضل للميكروبات المفيدة، مما قد يسهم في تقليل استخدام المياه والكيماويات في الزراعة.
في جامعة ولاية ميشيغان، يعمل فريق بإشراف أستاذ الهندسة الزراعية دانيال يويه على تطوير مشروع مهم. توأم رقمي لشجرة تفاح باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي والتطورات في المعالجات المتخصصة.
إذ يعتمد الفريق على أحدث هواتف آيفون المزودة بمستشعر ( LiDAR )وكاميرات قوية ومستشعرات أخرى لإنشاء مجموعة صور للأشجار التي تنمو في ظروف مختلفة، بما في ذلك درجة الحرارة والرطوبة النسبية، بهدف “محاكاة كل شيء عن الشجرة”، وفقاً لتعبير يويه.
في النهاية، يتمثل المفهوم في أن يكون لدى المزارع القدرة على جمع بيانات حول بستانه الخاص، ومن خلال استخدام شجرة معاد بناؤها رقميًا، يتمكن من محاكاة الظروف المناخية والحقلية المستقبلية لمحاصيله، مما يتيح له التخطيط بشكل أفضل للمستقبل.
سيتم إنتاج بيانات حول هذه الظروف المناخية المستقبلية باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي. ويشير يويه إلى أن التغير المناخي المتسارع يُعتبر تحديًا كبيرًا للممارسات الزراعية التقليدية.
لذلك، يعمل الفريق على تطوير نموذج متكامل لبستان شامل، مع توفير أدوات عملية للمزارعين للاستفادة من الكميات المتزايدة من البيانات المتعلقة بالنباتات والمحاصيل.
لكن دمج الذكاء الاصطناعي في علم النبات يواجه تحديات، خصوصاً فيما يتعلق بتوافر البيانات وجودتها. فما هو الحل؟
على عكس الكم الكبير من النصوص الرقمية التي تُستخدم لتدريب روبوتات المحادثة أو البيانات البيولوجية الناتجة عن تسلسل الجينوم، لا تتوفر صور رقمية كافية توثق الجوانب الفيزيائية المختلفة لشجرة التفاح.
وأشار كارلوس رودريجيز لوبيز، أستاذ علم البساتين، إلى التحديات التي تواجه العثور على علماء يجمعون بين الفهم العميق لكل من علم الأحياء وعلم البساتين. كما أنه من الصعب جذبهم إلى مجال علم النبات، الذي لا يوفر عادة رواتب مجزية أو تمويلات بحجم تلك المتاحة في أبحاث الطب الحيوي.
الذكاء الاصطناعي التوليدي يتيح فرصًا جديدة لتعزيز جودة المحاصيل:
يشهد مجال علم الأحياء ثورة جديدة مع تطور النماذج اللغوية الكبيرة – التي تشغل روبوتات المحادثة مثل روبوت ChatGPT، وأدوات الذكاء الاصطناعي الأخرى التي يتفاعل معها الأشخاص – بشكل متزايد، حيث يمكنها الآن فوakدم طرق جديدة لتحسين التواصل بين البشر والآلات. رموز لغة الحمض النووي والبروتينات، مما يعيننا على استيعاب تعقيد الحياة على الصعيد الجزيئي عبر تحليل كميات كبيرة من البيانات البيولوجية، واكتشاف أنماط جديدة في البيانات البيولوجية التي نعجز كبشر عن ملاحظتها.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن الاستفادة من النماذج اللغوية الكبيرة في ابتكار علاجات جديدة للأمراض عن طريق فهم كيفية عمل الجزيئات الحيوية داخل الجسم.
ويقول محسن يوسف زاده ، الباحث المشارك في جامعة جيلف الكندية: “سيسهم التقدم الكبير في النماذج اللغوية الضخمة في تمكين العلماء من فهم كيفية تفاعل المناطق المختلفة في الجينوم مع بعضها البعض، وكيفية السيطرة على السمات المختلفة للنبات، بطريقة مشابهة لترابط الجمل المختلفة داخل فصل لتشكيل قصة.”
وأضاف: “سيوفر هذا الكثير من الوقت والموارد، حيث لن يكون هناك حاجة لزراعة النباتات في الحقل لتحديد النبات الذي يتمتع بالصفات المطلوبة، مثل مقاومة الأمراض والجفاف وتحمل درجات الحرارة المرتفعة. يمكننا ببساطة أخذ عينة من الحمض النووي للبذور ومعرفة ما إذا كانت تحمل الصفات المطلوبة، ثم نختار أفضل البذور بناءً على ذلك “.
وتعد هذه التقنية الجديدة تحولًا جذريًا في مجال الزراعة، حيث يمكننا عبر تحليل الحمض النووي للبذور انتقاء أجود البذور للزراعة، وهو ما يسهم في زيادة الإنتاجية وتحسين جودة المحاصيل.